في الوقت الذي تتجه فيه البنوك المركزية حول العالم إلى تشديد السياسة النقدية ورفع معدلات الفائدة في بلدانها لمحاربة التضخم, فإن البنك المركزي التركي يغرد خارج السرب ويقوم بخفض معدلات الفائدة.
جدول المحتوى
المركزي التركي يعاند جميع النظريات الاقتصادية
مع كل خفض جديد في أسعار الفائدة يرى محللون أن البنك المركزي التركي يبتعد تماماً عن جميع المدارس الاقتصادية الحديثة والقديمة في مواجهة التضخم, إلا أنها تجد آذان صاغية خاصة لمناصري الخبير الاقتصادي إيرفينغ فيشر (Irving Fisher).
إيرفينغ فيشر صاحب النظرية الكمية في الاقتصاد التي قدمها قي كتابه (نظرية الفائدة) الذي لخص أبحاث حياته في مجال رأس المال وحساب ميزانية رأس المال والأسواق الائتمانية والعوامل التي تحدد معدلات الفائدة (بما فيها التضخم).
وتقوم هذه النظرية على معادلة رياضية تعرف بـ”معادلة فيشر”، وتنص على أن كمية النقود المتداولة مضروبة في سرعة دورانها (متوسط عدد المرات التي يتم استعمال وحدة نقدية فيها خلال فترة محددة) تساوي الحجم الكلي للمبادلات مضروباً في متوسط الأسعار.
مازال أنصار المذهب النقدي يصرّون على توظيف هذه النظرية من أجل تحذير الحكومات من الإفراط في استعمال السياسة النقدية عبر ضخ المزيد من النقود في الاقتصاد، فوفقاً لرأيهم يؤدي في النهاية إلى التضخم.
يعني هذا أن على الحكومات محاربة التضخم من خلال إيقاف ضخها للنقود في الاقتصاد وليس من خلال تغير أسعار الفائدة.
ما وجهة نظر المخالفين لسياسة المركزي التركي؟
يستمد البنك المركزي التركي سياسته من توجيهات الرئيس التركي في خفض معدلات الفائدة التي يراها غير منطقية وتضر بهيكل الاقتصاد التركي.
وللتعرف على وجهة نظر المخالفين لتوجهات الرئيس التركي, يمكن تقسيمهم إلى فئتين: الأولى أولئك الذين يختلفون معه سياسياً وهم سيخالفونه بجميع الأحوال ولن يتطرق المقال لهم.
الفئة الثانية هم الاقتصاديون الذين ينطلقون من تبنيهم لمعالجة الأمور في ضوء قراءة السياسات النقدية من منظور رأسمالي، والتي تتلخص في أنه إذا انخفضت قيمة العملة، فيتوجب عليك رفع سعر الفائدة لتمتص السيولة الزائدة في السوق، وتحافظ على معدلات التضخم.
ولذلك كان القائمين على المركزي التركي يرفعون الفائدة باستمرار حتى وصلت إلى مستويات 24% في العام 2018 , ولكن بقيت مشكلات الاقتصاد التركي على الصعيدين المالي والنقدي كما هي، مما أدى إلى بقاء البطالة عند معدلات مرتفعة 12.7%، وكذلك وصول التضخم إلى 19.7%.
ومن هذه المرحلة تدخل الرئيس التركي في سياسات المركزي التركي وأجرى عدة تغييرات بدأت بإقالة محافظ المركزي التركي عام 2019 (مراد تشتين كايا) ليحل محله نائبه (مراد أويصال) وصولاً إلى (شهاب كافجي اوغلو) الذي يشاطره في نفس وجهة النظر في التوجهات التي ينبغي على المركزي التركي بالنسبة لسعر الفائدة.
ما الأسباب التي تدفع الرئيس التركي إلى محاربة الفائدة؟
يمكن تقسيم الأسباب التي تدفع الرئيس التركي إلى محاربة أسعار الفائدة إلى قسمين رئيسين هما أسباب دينية وأسباب اقتصادية.
1- أسباب تتعلق بالشريعة الإسلامية:
لن نتطرق إلى الأسباب الدينية في هذا المقال على اعتبار أن الرئيس التركي لا يحاول فرض توجهات حزبه الحاكم ذات التوجهات الإسلامية على نظام الحكم في تركيا باعتبارها دولة علمانية.
يمكن قراءة ذلك من خلال أنّ الرئيس التركي لم يطالب على سبيل المثال بنشر وتعميم تجربة البنوك الإسلامية المعروفة باسم (البنوك التشاركية) في تركيا والتي لا تتعامل بآلية الفائدة , حتى إن انتشار مثل هذه النوعية من البنوك لا يزال محدوداً داخل البلاد.
وفقاً لبيانات جمعتها رويترز فإن حصة الخدمات المصرفية الإسلامية من إجمالي الأصول المصرفية داخل تركيا بلغت 7.1% في نهاية 2020, ومن هنا ينبغي النظر إلى الأسباب التي تدفع الرئيس التركي إلى خفض معدلات الفائدة إلى أسباب اقتصادية والتي سيتم التطرق إليها.
2- أسباب اقتصادية ومالية:
في خطاب ألقاه الرئيس التركي بتاريخ 09 أكتوبر من العام الحالي أمام حشد في إقليم بالكسير في غرب البلاد قال:”ما دام أخوكم في هذا المنصب ستستمر الفائدة في الانخفاض مع مرور كل يوم.. مرور كل أسبوع وكل شهر”. فما الذي يدفعه لهذه السياسة؟
من وجهة نظر اقتصادية هناك عدة أسباب لهذه السياسة
أولاً: زيادة أعباء الدين العام
بما أن الحكومات هي أكبر المقترضين من البنوك ذلك يضطرها لدفع تكاليف اقتراض عالية مما يؤدي إلى استقطاع المليارات من مخصصات بنود أخرى، مثل التعليم والصحة والإنفاق على البنية التحتية.
ثانياً: المستفيدون من الفائدة المرتفعة هم بنوك الاستثمار العالمية والأموال الساخنة
يقصد بالأموال الساخنة رؤوس الأموال التي يملكها المستثمرون الأجانب الذين يبحثون عن فرص استثمارية قصيرة الأجل والتي تتمثل بعوائد قصيرة الأجل للاستفادة من معدلات الفائدة المرتفعة وغالباً ما تنتقل من بلد إلى آخر بالشكل الذي يحقق أعلى عائد لأصحابها وقد أطلق عليها هذا الاسم نظراً لسرعة وسهولة تحرك الأموال داخل وخارج البلاد.
وذلك ما كان يحدث في تركيا ومازال حيث يقوم أصحاب رؤوس الأموال وبنوك الاستثمار العالمية بالاقتراض من بنوكها الغربية وبشكل خاص مجموعة دول العشرين وبعدها تذهب تلك الأموال إلى تركيا وغيرها من الدول الناشئة لشراء أدوات دين حكومية مثل السندات وأذون الخزانة، والحصول على أسعار فائدة أعلى.
هذه الأمر يؤدي إلى دفع مليارات الدولارات من خزانة البلاد من دون تحقيق قيمة مضافة للاقتصاد أو توفير فرص عمل , لا بل هي تشكل عبئ إضافي على عملة البلاد وبشكل خاص في حال حدوث أي خطر مفاجئ سواء أكان سياسياً أم اقتصادياً حيث تخرج هذه الأموال بشكل مفاجئ مما يؤدي إلى نزيف للقطع الأجنبي في البلاد.
ثالثاً: الفائدة المرتفعة تدعم الاقتصاد الريعي وليس الإنتاجي
يعمل الاقتصاد الإنتاجي على تنشيط الحركة الاقتصادية للبلاد ضمن هيكل يزيد من عدد الشركات والمشاريع العاملة في البلاد وبالتالي يوفر فرص عمل ويؤدي إلى زيادة في المنتجات وبالتالي زيادة الصادرات والحد من الواردات , وبالتالي الحد أيضاً من نزيف مليارات الدولارات التي تذهب للخارج لاستيراد سلع ومنتجات يمكن إنتاجها محلياً.
ما تداعيات سياسة المركزي التركي على الاقتصاد والليرة؟
انخفضت الليرة التركية إلى أدنى مستوى لها أمام الدولار الأمريكي في العاشر من أكتوبر الحالي حيث سجلت 18.615 للدولار ، بانخفاض 50٪ مقابل الدولار في العام الماضي بعد سلسلة من تخفيض لمعدلات الفائدة على الليرة التركية, ولكن بالمقابل لم تكن الليرة التركية هي الوحيدة التي خسرت أمام الدولار الأمريكي في هذا العام, في الواقع إن سياسة التشديد التي ينتهجها الفيدرالي الأمريكي لمحاربة التضخم رفعت قيمة الدولار الأمريكي إلى مستويات لم نشهدها منذ عقود.
على الرغم من أن خفض أسعار الفائدة أدى إلى انخفاض في قيمة الليرة التركية, لكن هل حققت هذه السلوك من المركزي التركي الفائدة المرجوة منه.
وهنا سنتطرق لبعض معطيات الاقتصاد التركي في الفترة التي سبقت ورافقت سياسة خفض الفائدة, ويبق الحكم للقارئ فيما إذا كانت هذه السياسة ناجعة أم لا, وهل حققت رؤية القيادة في تركيا لاقتصاد البلاد؟
– الميزان التجاري
كما أن لخفض سعر العملة المحلية سلبيات، فقد تحقق له إيجابيات في تركيا، ولكن لا يعني ذلك أن انخفاض سعر الليرة مرحب به دائما وعند أي معدلات.
حقق الاقتصاد التركي بعض الإيجابيات من انخفاض سعر الليرة، على رأسها زيادة الصادرات السلعية، وما كان ذلك ليتحقق لولا وجود قاعدة إنتاجية قوية اقتنصت الفرصة.
حيث أعلن وزير التجارة التركي (محمد موش)، أن صادرات بلاده سجلت رقما قياسيا في أغسطس/آب الماضي.
وقال موش: “سجلت صادراتنا في أغسطس الماضي زيادة بنسبة 13 بالمئة مقارنة بالشهر ذاته من 2021، لتبلغ 21.3 مليار دولار”.
وأضاف: “هذا الرقم هو أعلى رقم تصدير لشهر أغسطس على الإطلاق”.
– التضخم
قفز التضخم السنوي إلى ذروة جديدة تمثل أعلى مستوى في 24 عاما عند 83.45 بالمئة في سبتمبر الماضي، لكنه أتى أقل من التوقعات، بعد أن فاجأ البنك المركزي الأسواق بخفض أسعار الفائدة مرتين في الشهرين الماضيين رغم ارتفاع الأسعار.
الميزان التجاري التركي:
اتسع العجز في الميزان التجاري التركي ليصل إلى مستوى قياسي جديد في شهر أغسطس الماضي، مدفوعاً بارتفاع تكاليف الطاقة وزيادة واردات المعادن الثمينة.
وأظهرت الأرقام أن الفجوة الشهرية في الميزان التجاري وصلت إلى 11.2 مليار دولار، أي أقل بقليل من متوسط التقدير البالغ 11.3 مليار دولار, وهذا العجز هو الأعلى على الإطلاق، بحسب البيانات التاريخية التي تعود إلى عام 1984. وأظهرت البيانات الرسمية أن العجز في الفترة من يناير إلى أغسطس 2022 وصل إلى 73.4 مليار دولار أميركي، بزيادة نسبتها 146% عن العام السابق.
ويشير هذا الارتفاع إلى الزيادة الكبيرة في أسعار السلع والطاقة بسبب التغيرات الجيوسياسية في العالم وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية, حيث تشكل فواتير الطاقة بشكل خاص جزء كبير من واردات تركيا.
كما أظهرت البيانات الرسمية أن ألمانيا هي الوجهة الأولى للصادرات التركية في أغسطس الماضي، بمبيعات بلغت 1.66 مليار دولار، في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الألماني أيضاً من صعوبات اقتصادية.
وكانت روسيا أكبر مُصدّر لتركيا، وهي مزود رئيس للطاقة بقيمة 6.3 مليار دولار.
– معدلات نمو اقتصادي غير متوقعة
حقق الاقتصاد التركي نمو في الربع الثاني من العالم الحالي (2022) بنسبة 7.6% على أساس سنوي في الربع الثاني، بزيادة طفيفة عما كان متوقعاً، مدفوعا بالصادرات القوية فضلاً عن الطلب المحلي والأجنبي.
وأظهرت بيانات معهد الإحصاء التركي أن الناتج المحلي الإجمالي نما بنسبة 2.1%.
في العام الماضي (2021)، انتعش الاقتصاد التركي بقوة من جائحة “كوفيد-19” ونما بنسبة 11.4%، وهو أعلى معدل له منذ عقد. وأظهرت بيانات اليوم الأربعاء أنه تم تعديل النمو السنوي في الربع الأول من عام 2022 إلى 7.5% من 7.3%.
ومن المتوقع أن يتراجع النمو في النصف الثاني من العام بسبب الاتجاه التنازلي في الطلب المحلي والخارجي، بسبب التباطؤ المتوقع في أكبر شركاء تركيا التجاريين, لكن الأرقام القادمة هي الفيصل في هذا الموضوع.
– البطالة إلى أدنى مستوى منذ 2014:
نقلاً عن وكالة الأناضول تراجع معدل البطالة في تركيا خلال أغسطس/ آب من عام 2022 بمقدار 0.4 نقطة، مقارنة مع يوليو/ تموز 2022، ليستقر عند 9.6 بالمئة.
وأوضحت المعطيات أن معدل البطالة في تركيا تراجع إلى أدنى مستوياته منذ مارس/آذار عام 2014, حيث تراجع 2.2 بالمئة مقارنة بالشهر نفسه من العام 2021.
من خلال استعراض البيانات الاقتصادية السابقة يمكن القول أنه لا يمكن الحكم على سياسة البنك المركزي التركي في الوقت الحالي, فأي تغير في السياسات المالية والنقدية لأي بلد تحتاج إلى وقت حتى تؤتي ثمارها, وبشكل خاص في بلد مثل تركيا حيث كانت معدلات الفائدة المرتفعة هي السائدة على مدى السنين الماضية وذلك لارتباطه بأمور أخرى منها مكافحة التضخم، وزيادة الإنتاج ورخص تكاليف مدخلاته، وتقوية الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي، والحد من الدين الخارجي، وتقليل الأعباء المستحقة عليه, نقابل ما يحدث من هروب لرؤوس الأموال الأجنبية والمضاربات الشرسة على الليرة التركية.
كما أن ما يحدث في تركيا من ارتفاع في معدلات التضخم شأنه شأن أي بلد في العالم, حتى كبرى اقتصادات العالم تعاني منه وتسعى جاهدة للحد من تأثيره, ما يصعب الأمر على تركيا هو الارتفاع في أسعار الطاقة العالمية الذي يشكل جزء كبير من فاتورة استيرادها.
بالنظر إلى باقي البيانات الاقتصادية التركية يمكن القول إن آثار تنشيط عجلة الاقتصاد الإنتاجي وخلق فرص عمل باتت واضحة وأن معالم ومبررات سياسة التيسير التي ينتهجها البنك المركزي التركي أصبحت تؤتي ثمارها فمعدلات البطالة في انخفاض وقيمة الصادرات في ارتفاع, فهل تستمر البيانات الاقتصادية بإيجابية؟
اقرأ ايضاً: رفع البنك المركزي التركي سعر الفائدة إلى 15٪ في تحول دراماتيكي